سامان نوح
خلال 30 سنة من عمر اقليم كردستان لم يسبق ان وصلت حرية الصحافة الى هذا المستوى من التدني، يردد ذلك صحفيون وكتاب كثر، فيما لا يبتعد كثيرا عن ذلك “المسار المحبط” حديث بعض قادة الأحزاب محذرين من التراجع الذي تشهده حرية التعبير، وهو ما تؤكده رئيسة برلمان الاقليم ريواز فائق مشيرة الى التساؤلات التي اثيرت بشأن محاكمة صحفيي ونشطاء منطقة بادينان.
يحدث ذلك فيما تتوالى التقارير الدولية المنتقدة لانتهاك الحريات الصحفية في اقليم كردستان والمحذرة من انزلاق الاقليم الى “هوة” المناطق التي تقمع الصحفيين بعد ان كانت ملاذا لهم.
تقول “بلقيس والي” الباحثة في الأزمات بمنظمة (هيومن رايتس ويتش) إن “المحاكمات المعيبة في إقليم كردستان ليست بالأمر الجديد، لكن التباهي بأبسط مبادئ العدالة لمعاقبة أشخاص يُزعم أنهم يخططون لتظاهرة هو مستوى جديد من الانحطاط”.
لكن حكومة اقليم كردستان تنفي كل ما يتردد في التقارير الدولية والمحلية وتردد ذات الجملة: “حرية الصحافة والتعبير مصانة في الاقليم وسنعمل على حمايتها وترسيخها”.
على الأرض تحول “قانون العمل الصحفي” المقر من قبل برلمان الاقليم الى “حبر على ورق” وفق رؤية الكثير من الصحفيين، فالقانون الذي يفترض ان يعتمد على بنوده لمحاسبة اي صحفي يرتكب مخالفة تتعلق بمهنته، يوضع جانبا ويتم محاكمة الصحفيين كلما ارادت السلطات ذلك وفق “قانون العقوبات العراقي” الذي كان يستخدمه نظام حزب البعث لقمع وملاحقة الصحفيين.
كما ان سلطات الاقليم لا تسمح عمليا بتطبيق قانون “حق الحصول على المعلومات” وتمضي في معاقبة الصحفيين على ما يكتبونه كلما أرادت، وفق قانون “اساءة استخدام اجهزة الاتصال”.
في اقليم كردستان حيث لا توجد صحافة حكومية، ولا حتى صحيفة واحدة او قناة رسمية ذات خطاب وطني جامع، تندثر عاما بعد آخر المؤسسات الصحفية الحرة، وتقل الأصوات المستقلة، وتسود الصحافة الحزبية و”صحافة الظل” التي تمثل الأحزاب بشكل غير مباشر، كما “صحافة الشخصيات السياسية” التي تكاد تحتكر المشهد الاعلامي وباتت لها الكلمة العليا.
ولا يشكل واقع الصحافة في الاقليم، الا جزءا من المشهد العام في كردستان الذي يشهد تعثرات وانتكاسات تتجسد في تراجع قوة البرلمان وفقدانه لدوره وتأثيره السياسي والتشريعي والرقابي، وتزايد الشكوك حول مخرجات وجدوى صناديق الاقتراع كأحد أسس ضمان الديمقراطية وادامة الحريات وتحفيز آليات التطوير والتصحيح والمحاسبة.
الى جانب الشكوك المتزايدة بشأن استقلالية القضاء، وتراجع دور المؤسسات على حساب تغول نفوذ الأحزاب والشخصيات، فلا أحد ينكر وجود مشكلة عميقة في بنية الأحزاب الحاكمة (القوية بسلطتي المال والسلاح) مع انهيار وتفسخ الأحزاب الصغيرة.
يأمل صحفيون وكتاب وسياسيون ونشطاء، ان يتم تدارك الأمر، وأن تتراجع سلطات الاقليم عن تحركاتها التي تهدد حرية التعبير والصحافة، فالأخيرة تشكل عماد أي نظام ديمقراطي وفقدانه يهدد باقي أعمدة النظام الديمقراطي ويشكل بداية الانهيارات المدمرة التي لا يمكن اصلاحها.
سلسلة البيانات التي اصدرها قادة الاقليم في ذكرى يوم الصحافة الكردية (22 نيسان من كل عام)، والتي أكدت دعمهم لحرية الصحافة وحرية التعبير، ستظهر مدى جديتها في الأسابيع المقبلة، فمحاكمة العديد من صحفيي ونشطاء بادينان تأجلت عدة مرات رغم توقيفهم منذ نحو ثمانية أشهر، وينتظر خمسة منهم قرار محكمة التمييز الذي تأخر أيضا، فيما يشكو المحامون من عدم قدرتهم على التواصل مع النشطاء المعتقلين الذين شاركوا في تظاهرات “غير مرخصة” لكنهم متهمون لدى السلطات بالتجسس واخلال أمن الاقليم، ويتم احتجازهم في مراكز مزدحمة بالمتهمين، ولا يمكن لغالبيتهم لقاء عوائلهم.
لا يكاد يختلف اثنان في كردستان، على أن الحريات في تراجع لا يمكن إنكاره، وان هناك محاولات أكبر للتضييق على الأصوات المستقلة والحرة بعد ان كادت الصحافة الحرة تندثر، وان هامش الحريات الذي يعمل به الصحفيون يضيق يوما بعد آخر، وان المحاكمات والتوقيفات الأخيرة للصحفيين والنشطاء تدفعهم الى وضع المزيد من أسوار الرقابة الذاتية على ما يكتبونه خوفا من الملاحقات.
تصف “هيومن رايتس ووتش” المحاكمات التي شهدها الإقليم بحق الصحفيين والنشطاء بـ”المعيبة”، وتشدد على أن “الإجراءات في محكمة أربيل الجنائية شابتها انتهاكات خطيرة لمعايير المحاكمة العادلة، بالإضافة إلى تدخل سياسي عالي المستوى”.
وتحدثت المنظمة الحقوقية الدولية، في آخر تقرير لها صدر في “يوم الصحافة الكردية” عن انتهاكات لمبادئ حقوق الإنسان وتهديدات طالت المحتجزين.
كما انتقد التقرير السنوي لمنظمة “مراسلون بلا حدود” بشدة حكومة الاقليم، وذكر انه “لاحدود للعقوبات” التي تطال الصحفيين ممن ينتقدون السلطات.
وتنفي حكومة الإقليم كل تلك الاتهامات، وتقول ان القضاء مستقل والمحكمة غير مسيسة، وأن الحكومة لم تتدخل بأي شكل من الأشكال في المحاكمة التي جرت. يأتي ذلك في حين ان رئيس حكومة الإقليم كان قد استبق المحاكمة باسبوع بالقول في مؤتمر صحفي ان المحتجزين “ليسوا ناشطين أو صحفيين، بعضهم جواسيس، يتجسسون لحساب دول أخرى… وبعضهم مخربون”.
اتساع دائرة الانتقادات التي توجه الى حكومة الاقليم، لم تقتصر على تقارير هيومن رايتس ويتش ومراسلون بلا حدود، فأكثر من عشر مؤسسات دولية واقليمية ومحلية انتقدت واقع حرية التعبير وحذرت من أن الحكومة “تقوض الحريات العامة، بما في ذلك حرية الصحافة وحرية التجمع السلمي”.
بيانات وتقارير تلك المؤسسات التي طالما كان قادة الاقليم طوال عقود يعتمدون عليها كدليل لادانة ممارسات نظام حزب البعث المنتهكة لحقوق الانسان بما فيه حق التعبير وحرية العمل الصحفي، ويجعلون منها أساسا للمطالبة بحرية المجتمع الكردستاني.
تقول بلقيس والي ان “هذه الإدانات الأخيرة لا تؤدي، إلا إلى تفاقم تدهور سمعة إقليم كردستان العراق كمكان يواجه فيه الناس محاكمات جنائية غير عادلة لمجرد انتقاد السياسات الحكومية التي يعترضون عليها، أو التعبير عن مخاوفهم من النخب السياسية”.